الأربعاء، 12 أكتوبر 2016

تطور المفهوم النحوي في النظرية النحوية العربية، البناء للمفعول نموذجا


 
 المقدمة
   تعتبر ظاهرة المصطلح مسألة شائكة، لما تكتنفه من خصائص حاول النحاة والمناطقة سبرها قديما وحديثا، عبر التسلسل السنكروني للعلوم، للبحث عن ضوابط تعدّد معايير وسم المفاهيم والمتصورات للتعبير عن الظواهر المدروسة. وقد بدأ النحاة العرب بالبحث "في المصطلح النحوي للسعي إلى تأريخ ظهوره وتبلور مفهومه الفني وتأرجحه بين أكثر من مفهوم" ولكن ذلك اصطدم "بنفس المصاعب التي تعترض سبيل البحث في نشأة النحو وتكون مادته وتطوّرها" (عبد القادر المهيري 1986: 477).
وإذا كانت دراستنا هذه تستدعي تجاوز معضلة المصطلح النحوي بإعتبار أنّ فترة المخاض في التفكير النحوي حسب المهيري سابقة على سيبويه؛ فإنّ غياب مستندات كافية لدراسة تاريخية المصطلح النحوي، ونقصد هنا "البناء للمفعول" أو "البناء للمجهول" تكوّن معضلة أخرى.
   لقد بدأ وعي النحاة منذ القديم بأهمية المصطلح في الدراسة النحوية، تجلّى ذلك في محاولات تعريفه في المؤلفات النحوية إلى حدود كتاب التعريفات للجرجاني، من خلال جدولة خصوصياته واستنباط " سماته المميزة" بالمقارنة والقياس وحمل الفروع على الأصول أو الاشتقاق. ويبدو ذلك من القضيتين الأساسيتين اللتين حكمتا دراسة المبني للمفعول، وهما كونه بنية أصلية، من جهة، أو بنية فرعية تحويلية يرتقي فيها المفعول إلى محل الفاعلية، من جهة أخرى، بما أن الفاعل لا يمكن أن يبقى شاغرا من الناحية الإعرابية التركيبية. فيحلّ المفعول محله في الظاهرة المدروسة دون أن يتعرّى من سماته الدلالية التي تسمه بدور المتحمّل Patient و تسلب منه دلالة المنفذية Agentivité لعلل نحوية تُبقي الفروع متميزة عن الأصول رغم حلولها محلها.
   إن موضوعنا هذا لا يعتمد الغوص في دراسة الأبنية الإعرابية الدلالية وإنّما يسعى من أجل الوقوف على الخصوصيات أو السمات التي جعلت هذا النحوي أو ذاك يسم الظاهرة بـ "س" أو "ص" بما أنّ بحثنا يروم دراسة الجهاز المصطلحي لظاهرة البناء للمفعول؛ لتوضيح سيرورة هذه الظاهرة وتاريخيتها، من الناحية الإعرابية التركيبية. نشير إلى أنّ التسلسل الزمني التاريخي مفقود بين المؤلفات النحوية "فما ضاع من كتب النحاة في مراحل متعاقبة أكثر مما وصلنا" (قريرة (2003: 12)، مع أنّ كتب الشروح[1] قد حفظت مصطلحات الكتب المشروحة المفقودة. هذا إذا ما اعتبرنا "أنّ الوثائق التي يمكن أن تكون شاهدة على فترة المخاض وممثلة للخطوات الأولى للتأليف النحوي لم يبق لنا منها شيء بل إنّ أثرها قد امّحى في فترة مبكرة، وانعدام الوثائق يمثل عقبة في سبيل تتبع المصطلحات والوقوف على سيرورتها مرورا بالاستعمال المجازي ووصولا إلى تكريس المصطلح" (المهيري (1989: 478).
   إنّ هذه العوائق وغيرها ترغم الدارس على توخي منهج يكون ردفا للمنهج التاريخي. ولذلك سنعتبر السياق النحوي، بقدر المستطاع، لتحديد مقاصد النحويين واعتباراتهم لمختلف التسميات الاصطلاحية الدالة على مفهوم البناء للمفعول باعتباره اختزالا للجملة أو تحويرا لها أو باعتبار بنية أصلية للتعبير عن دلالات مربوطة بمقامات معينة عددها السيوطي عندما ذكر أنّ الفاعل "يحذف ... لغرض، كعلم وجهل وضعة ورفعة وخوف وإبهام ووزن وسجع وإيجاز" (السيوطي (1997: 518).
فما هذه المصطلحات التي ذكرها النحاة للتعبير عن الظاهرة؟ وما المعايير والخلفيات النظرية التي وضعوها من خلالها؟ هذه الأسئلة هي التي نسعى إلى الجواب عنها في المحاور الآتية.

I- الثبت الاصطلاحي لإجراء مفهوم البناء للمفعول في أهم المؤلفات النحوية 

   نشير في مستهل جدولتنا للمفاهيم المستعملة لتأدية مصطلح البناء للمفعول أننا سنعتمد طريقة تسند لكل مفهوم رقما يحدده؛ وإذا ما تكرر المفهوم في استعمال النحاة سيتكرر الرقم ضرورة:

المؤلِّف
المؤلَّف
المصطلح
السياق الذي ورد فيه المصطلح
ص
تاريخ الصدور
سيبويه ، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنتر
 (... – 180 هـ)
الكتاب، ج1
1- المفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولم يتعدّه فعله إلى مفعول.
1َ- المفعول الذي لم يتعدّه فعله ولم يتعدّ إليه فعل فاعل.
3- المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعول
المفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولم يتعدّه فعله إلى مفعول آخر، والفاعل والمفعول في هذا سواء، يُرفع المفعول كما يُرفع الفاعل لأنّك لم تُشغّل الفعل بغيره وفرّغته له، كما فعلت ذلك في الفاعل.... والمفعول الذي لم يتعده فعله ولم يتعدّ إليه فعل فاعل فقولك ضُرِب زيد ويُضرب عمرو ... فجميع ما تعدّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعداه فعله إلى مفعول يتعدى إليه فعل المفعول الذي لا يتعداه فعله"
هذا باب المفعول الذي يتعداه فعله إلى مفعول وذلك قولك: كُسي عبدُ الله الثوب، وأُعطي عبد الله المال.
33-42
180هـ
المبرّد (210-285هـ)
المقتضب الجزء الأول
4- المفعول الذي لا يذكر فاعله.
"هذا باب المفعول الذي لا يذكر فاعله وهو رفع نحو قولك ضُرِب زيد ... وإنّما كان رفعا وحدّ المفعول أن يكون نصبا لأنّك حذفت الفاعل ولا بدّ لكل فعل من فاعل؛ لأنه لا يكون فعل ولا فاعل ... فلما لم يكن لفعل بدّ من. وكنت ههنا قد حذفته أقمت المفعول مقامه، ليصبح الفعل بمقام فاعله".
50
ت286هـ
ابن السرّاج، أبو بكر محمد بن السرّي النحوي البغدادي  
(316هـ)
الأصول الجزء الأول
5- المفعول الذي لم يسم من فعل به
6- فعل بُني للمجهول
7- لم يذكر من فعل به
8- المبني على فعل بُني للمفعول
9- لم تذكر من فعل به
"شرح الرابع من الأسماء المرتفعة وهو المفعول الذي لم يسم من فعل به إذا كان الاسم مبنيا على فعل بُني للمجهول ولم يذكر من فعل به، فهو رفع وذلك قولك: ضُرب بكر ... فبني الفعل للمفعول على فُعل ... وارتفاع المفعول بالفعل الذي تحدثت به عنه كارتفاع الفاعل إذا كان الكلام لا يتم إلاّ به ولا يستغنى دونه ولذلك قلت: إذا كان مبنيا على فعل بُني للمفعول أردت به ما أردت في الفاعل من أنّ الكلام لا يتم إلاّ به وقلت ولم تذكر من فعل به؛ لأنك لو ذكرت الفاعل ما كان المفعول إلاّ نصبا وإنّما ارتفع لما زال الفاعل وقام مقامه"
76-77
316 هـ

الموجز
10الذي لم يسم من فعل به
"والرابع الذي لم يسم من فعل به وبُني فعل خُصّ به"
30
316 هـ
الزجاجي، عبد الرحمن بن إسحاق (...- 337 أو 339)
الإيضاح في علل النحو
11- ما لم يسم فاعله

12- المفعول ناب منابه
"... إنّ الأسماء لما كانت تعتورها المعاني، فتكون فاعلة ومفعولة ومضافا ومضافا إليها ، ولم تكن في صورتها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني بل كانت مشتركة جُعلت حركات الإعراب فيها تنبئ عن هذه المعاني، فقالوا: ضرب زيد عمرا، فدلّوا برفع زيد على أنّ الفعل له، وبلفظ عمرو على أنّ الفعل واقع به. وقالوا: ضُرب زيد، فدلوا بتغيير أول الفعل ورفع زيد على أنّ الفعل ما لم يسم فاعله وأنّ المفعول ناب منابه.
69
340 هـ
الفارسي (...– 377)
الإيضاح[2]
13المبني للفاعل
14 الفعل المبني للمفعول به
"... فعرفت وأكرمت مبني للفاعل، وإن بنيته للمفعول به قلت أُكرم زيد وعُرف خالد[3]"


ابن جنّي، (ت – 392)
سرّ الصناعة ج1
11- ما لم يسم فاعله
"قضى النحويون على موضع الجار والمجرور إذا أُسند الفعل إليهما بأنهما في موضع رفع ... وكذلك ما لم يسم فاعله نحو سير بزيد"
148
392 هـ

المحتسب الجزء الأول
15- بناء الفعل للمفعول
"... ثم أنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة [المفعول به] حتى صاغوا الفعل له وبنوه على أنّه مخصوص به، وألغوا ذكر الفاعل مُظهرا أو مُضمرا فقالوا ضُرب عمرو؛ فاطّرح ذكر الفاعل البتة ... وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل البتة ... فإذا أثبتّ بهذا كلّه قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معهما وبنوا الفعل لمفعوله فقالوا ضُرب زيد  حسُن قوله تعالى "وَعُلِّمَ آَدَمُ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا"
345
471 هـ
الجرجاني عبد القاهر (ت 471)
المقتصد في شرح الإيضاح
16- البناء للمفعول
"الضرب الثاني إلي هو غير المتعدّي ... لا يكون فيه البناء للمفعول؛ لأنّ حقيقة ذلك أن تختزل الفاعل وتضع المفعول موضعه"
345
471 هـ


17- فعل بُني للمفعول به
"وكلّ فعل بُني للمفعول به ضُمّ الصدر منه"
529

الزمخشري، (497/528)
المفصل في النحو
18- الفعل المبني للمفعول
19- فعل ما لم يسم فاعله
"الفعل المبني للمفعول هو ما استغن عن فاعله فأقيم المفعول مقامه وأُسنِد إليه معدولا عن صيغة فَعَل إلى فُعل ويسمّى فعل ما لم يسم فاعله"
116

ابن يعيش (553/643 هـ)
شرح المفصل، المجلّد الثاني
المجلّد السابع
19- فعل ما لم يسم فاعله

20- المفعول الذي لم يسم فاعله
"اعلم أنّ المفعول الذي لم يسم فاعله يجري مجرى الفاعل في أنّه بني على فعل صيغ له على طريقة فُعل كما يُبنى الفاعل على فعل صيغ له على طريقة فَعلَ ويجعل الفعل حديثا عنه، كما كان حديثا عن الفاعل في أنّه يصحّ به وبفعله الفائدة ويحسن السكوت على الفاعل ويصاغ لمن وقع منه ويقال له فعل ما لم يسم فاعله"
69
643 هـ
ابن الحاجب (571/646)
الكافية[4]
19 فعل ما لم يسم فاعله
فعل ما لم يسم فاعله هو ما حذف فاعله

646هـ
الاستراباذي رضي الدين
(ت 684- 688)
شرح الرضي على الكافية ج4
19- فعل ما لم يسم فاعله
21 فعل المفعول الذي لم يسمّ فاعله
22 المبني للمعول
"فعل ما لم يسم فاعله أي فعل المفعول الذي لم يسمّ فاعله وإنّما أضيف إلى المفعول؛ لأنّه بُني له ... وإنّما أختير للمبني للمفعول؛ هذا الوزن الثقيل دون المبني للفاعل لكونه أقل استعمالا منه"
128
684 هـ
الاستراباذي ركن الدين
(ت715 هـ)
الوافية في شرح الكافية
23- مفعول ما لم يسم فاعله
20- المفعول الذي لم يسم فاعله
"وقوله مفعول ما لم يسم فاعله[5]كل مفعول حُذف فاعله وأقيم هو مقامه وشرطه أن يعين صيغة الفعل إلى فُعل أو يُفعل ... أعلم أنّه ... ذكر المفعول الذي لم يسم فاعله؛ لأنّه كما ذكر تعريف الفاعل لم يدخل فيه مفعول ما لم يسم فاعله. ويجب إفراده بالذكر؛ لأنّه من المرفوعات


ابن هشام (ت 708 هـ)
الجامع الصغير في النحو
24-النائب عن الفاعل
"باب النائب عن الفاعل، يُحذف الفاعل للجهل به أو لغرض لفظي أو معنوي، فينوب عنه في أحكامه كلّها مفعول به"
79
761 هـ

مغني اللبيب
24- النائب عن الفاعل
"يجوز في نحو "أخوه" من قولك: زيد ضُرب في الدار أخوه، أن يكون فاعلا بالظرف لاعتماده على ذي الحال وهو ضمير زيد المقدّر في ضُرب وأن يكون نائبا عن فاعل ضُرب على تقديره خاليا من الضمير"
262
911 هـ
السيوطي
(ت 911 هـ)
همع الهوامع
25- نائب الفاعل
"قد يترك الفاعل لغرض لفظي أو معنوي كالعلم به .. أو الجهل به ... أو تعظيم ... أو تحقير ... أو خوف منه ... أو خوف عليه ... فينوب عنه المفعول به"
262
911 هـ
الشنقيطي أحمد الأمين
الدرر اللوامع
25- نائب الفاعل
"شواهد على نائب الفاعل"
292
1331 هـ

II- ضبط السمات المحددة لمفهوم البناء للمفعول عند النحاة
   نلاحظ من خلال الجدول أعلاه تعدد المصطلحات وتداخلها نظرا إلى ما يكتنف الظاهرة المدروسة من التباس يعود إلى تداخلها مع بعض الظواهر اللغوية الأخرى. وسنحاول في هذا المجال توضيح الأسس التي أنبنى عليها المصطلح في الآثار المذكورة مع العلم أن بعض النحاة استعمل أكثر من مصطلح.
1- المصطلح عند سيبويه
   نلاحظ أنّ تسمية الظاهرة المدروسة عند سيبويه مرتبطة بالإعراب والعمل. ويتضح ذلك من استعماله لمفهوم التعدية "المفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولم يتعدّه فعله إلى مفعول آخر". ويعني ذلك عملية الوسم الإعرابي أي وصول عمل الفعل إلى متعلّقاته. فالمفعول في ضُرب زيد مكانه شاغر إذ "لم يتعد إليه فعل فاعل" باعتبار أن الفاعل "الأصلي" حلّ محلّه "الفاعل النحوي" الذي كان مفعول به إن اعتبرنا أن البناء للفاعل أصل تولّد من البناء للمفعول مع أن سيبويه لم يتوجه هذا التوجه حسب اطلاعنا، لأنه ساوى بين البنيتين، نستنتج ذلك من قوله: "والفاعل والمفعول في ذلك سواء" ويقصد "المفعول المرفوع" باعتبار أنّ البناء للمفعول ضرب من اللزومية "يُرفع المفعول كما يرفع الفاعل؛ إذْ لا فرق عند سيبويه بين فاعلي: ضُرب زيد، وضرب زيد. ولكن الدراسات اللسانية الحديثة تفرّق بينهما من الناحية الدلالية وإن كانا متشابهين من الناحية الإعرابية "الشكلية"؛ فزيد الأولى متحمل Patient والثانية منفذ Agent. وما نلاحظه في المصطلح السيبويهي أنه جاء واصفا للظاهرة باعتبار أنّ الفعل فيها لم يتعد فاعله "الشكلي" إلى محل المفعولية ولذلك جعل سيبويه الظاهرة المدروسة موازية للبناء للفاعل.
   استعمل سيبويه مصطلحين أثنين للتعبير عن الظاهرة المدروسة: ركز في (1/1َ) على "ارتقاء" المفعول به إلى حيّز الفاعلية؛ "لأنك لم تشغل الفعل بغيره"؛ إذ يشبه البناء للفاعل في "التعدي والاقتصار ... لأنّ معناه متعدّيا إليه فعل الفاعل وغير متعد إليه فعله؛ سواء"، فالمتكلّم أراد ذلك قصدا؛ والمفعول "المرفوع" هو البؤرة Focus أو المعلومة الجديدة New؛.  يختلف (2) عن (1/1َ) من جهة زاوية النظر؛ إذْ تمّ التركيز هذه المرة على فعل المفعول أو المفعول الذي يتعدّاه فعله لتمييزه عن فعل المعول أو المفعول الذي لم يتعده فعله/ ولم يتعد إليه فعل فاعل، في طلبه لموضوعاته Arguments، فـ(1/1َ) أقلّ متعلّقات من (2) مع الإشارة إلى أنّ الأوّل ليس مشتقا من الثاني، وإنّما يمثل بنية مستقلة حسب سيبويه؛ إذْ ليس بمجرّد طلب فعل المفعول لمتعلّق فاعل (مفعول معنى) يجعل منه بنية فرعية على بنية البناء للمعلوم؛ لأنّ الفاعل الحقيقي هو المتكلم[6]؛ إذْ هو الذي يوزع الشؤون[7] الدلالية أو الوظائف النحوية. وربما يعود استعمال المصطلحين المذكورين إلى أن التغيير في الظاهرة المدروسة يُصيب الفعل كما يُصيب الاسم؛ فقد بدأ سيبويه بالاسم أي المعرب /المعمول في المصطلح الأول ثم عاد إلى الفعل العامل دون أن يجعل الظاهرة تحول لظاهرة أخرى كما أشرنا.
   جاء المصطلح عند سيبويه مركبا، نعني بذلك أنّه يصف عملية إجراء الظاهرة النحوية بما أنّه يعرّف بالظاهرة بحكم كونه من الرواد في الدراسات النحوية العربية نسبة إلى المتاح؛ ولذلك جاء المصطلح عنده غامضا، ونصه طويل إلى حدّ الإسهاب.
2- المُبرّد
    جاء المصطلح (4) أقل حدّة من المصطلحات الثلاثة الأول الموجودة عند سيبويه، وإن كان لا يختلف كثيرا عنهما من حيث عدم توفر مقياس الدقة في الاصطلاح ونقصد بذلك التعبير عن الظاهرة المدروسة بأقل ما يمكن. ومن الواضح أن المصطلح (4) يختلف عن سابقِيه من حيث المنطلقات أو من حيث السمات النحوية الدلالية؛ فالمبرّد، في تفسيره للظاهرة، لجأ إلى الأصول النحوية. فالأصل في الجملة الفعلية أن تتألّف من فعل وفاعل ... إلخ، يتضمّن كلّ السمات التركيبية، الصرفية، الدلالية ... التي تخوّل له أن يكون فاعلا طرازيا يحمل شأن المنفذ. ولذلك أشار المبرد إلى أنّه "لابدّ لكل فعل من فاعل"؛ إذْ أنّه عندما يتم حذف الفاعل يختل التركيب في البنية باعتبار غياب شأن المنفذية، ولذلك كان لزاما أن يرتقي المفعول به إلى حيّز الفاعل؛ على أنّ ما أشار إليه سيبويه لا يفهم منه دلالة حذف الفاعل وحلول المفعول محله خلافا للمبرّد بما أنّ الأوّل ركّز على مفهوم التعدية واللزوم في الفعل المبني للمفعول بعمله الرفع في حيّز النصب كما بيناه.
3- ابن السراج
   نجد عند ابن السراج تواتر أربعة مصطلحات وهي (5، 6، 7، 8)، إذ يحدد (5، 7) مفهوم الإخفاء أو الحجب أو الزوال ، ويحدد (6، 8) صيغة الفعل من حيث البناء وما يترتب عن ذلك من ترك للفاعل ورفع للمفعول الحال محله. وما يلفت الانتباه أنه يبني الفعل تارة للمجهول وهو هنا يقصد الفاعل المحذوف وتارة يبنيه للمفعول الذي اكتسب سمة الفاعلية. ولم يذكر ابن السراج المعاني التي يتطلب حضورها اختفاء الفاعل ، وربما يعود ذلك إلى اهتمامه بمتعلّقات الفعل Valance من حيث الاختزال؛ "فإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول واحد ... أزلت الفاعل ... فصار المفعول يقوم مقام الفاعل وبقي الكلام بغير اسم منصوب؛ لأنّ الذي كان منصوبا قد أرتفع" (ابن السراج (د، ت)، ج1: 78). وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار ابن السراج ممن يدرجون الظاهرة المدروسة في حيز الفرعية لبناء أصلي؛ مع أننا لم نجده في موضع من مواضع الباب قد استعمل مفاهيم توحي بأصلية البنية فعل، فاعل، مفعول به؛ وفرعية فعل، نائب فاعل بصورة واضحة. ولكن عملية رفع المنصوب واختزال الجملة الذي تحدث عنه يعتبران مؤشران على عملية التحويل.
   لم يذكر ابن السراج في كتاب الموجز إلاّ المصطلح (5) ولكنه أضاف نوعا من التحديد للظاهرة، إذ اختزلها في نوع من الأفعال الخاصّة؛ لأنّها "بُني فعل خُصّ" بها ولا يقصد هنا الأفعال الملازمة للبناء للمفعول وإنّما يذهب إلى الخصوصيات الصرفية التركيبية أو الصرفية الإعرابية للصيغة التي جُعلت لهذه الأفعال باعتبار أنّ صيغة فُعلَ مشتقة أو مولّدة من صيغة فَعَل وهنا يتأكّد معنى التحويل. ولكن يمكن أن نذهب مذهبا معاكسا إذا ما أوّلنا تلك الميزة التي يكاد ينفرد بها ابن السراج وهي اعتباره "المفعول الذي لم يسمّ فاعله" رابع الأسماء المرفوعة والتي هي المبتدأ والخبر والفاعل. فسيبويه قد أعتبر أنّ "المفعول الذي لا يتعدّاه فعله ..." بمثابة الفاعل في تعلّق الفعل به أو إسناده له باعتبار أنّ "الفاعل والمفعول في ذلك سواء يُرفع المفعول كما يرفع الفاعل لأنّك لم تشغل الفعل بغيره" أي أنه لا يضيف مرفوعا جديدا. أما ابن السراج فقد أضاف مرفوعا رابعا؛ لأنّه "بني فعل خُصّ به". وبذلك لا يكون البناء للمفعول صيغة تحويلية؛ نظرا إلى أنّه ضرب آخر من اللزومية يستعمله المتكلّم في مقامات معينة.
4- الزجاجي
   أول ملحوظة نوردها حول مصطلحي الزجاجي (11)، (12) أنّ سياق الكلام جاء في "باب القول في الإعراب لما دخل في الكلام". ثم أنّ الزجاجي تساءل عن الغرض من الإعراب أو فائدته "ما الذي دعا إليه واحتيج إليه من أجله وهذا يخوّلنا القول: إنّ مصطلح "ما لم يسم فاعله" مرتبط بالإعراب والعمل بما أنّ الإعراب يكشف عن السمات النحوية غير الكامنة في الدلالة المعجمية للأسماء؛ لأنّ معاني الفاعلية والمفعولية والإضافة معاني مجردة تعتور الاسم في الإجراء؛ نظرا لوقوعه في حيّز الرفع أو النصب أو الجر الموسومة بعلامات الإعراب أو ما ينوب عنها من صرافم[8] إعرابية وتصريفية، فالرفع في الجملة الفعلية يجعل الاسم فاعلا، والنصب يجعله مفعولا. ولكن هذا المفعول قد يحلّ محلّ الفاعل فيتغيّر أوّل الفعل لذلك، ويختفي شأن المنفذ، فيرتقي الشأن الدلالي "متحمل patient" محله؛ نظرا إلى مبدأ "سُلّمِية الشؤون الدلالية" التي بينها الفاسي الفهري (1986: 85-91). تلك السُّلّمِية التي تجعل من اقتراب المفعول من حيز العاملية كافيا لوسمه بسمات الفاعلية، أو النيابة عنها حسب المصطلحات النحوية. ولذلك يمكن أنْ نعتبر أنّ مصطلح الزجاجي قد وقع التركيز فيه على عملية إخفاء الفاعل الحقيقي أي القائم بالفعل باعتبار أنّ العملية تحويل أو اشتقاق من تركيب أصلي هو البناء للفاعل.
   ويتضح ذلك من قول الزجاجي "وأنّ المفعول قد ناب منابه". وقد أعتبر الزجاجي بناء على ذلك أنّ الجملة: ضرب زيد عمرا؛ بُني فيها الفعل للفاعل موضحا أن رفع زيد دليل "على أنّ الفعل له" كما أعتبر أنّ رفع زيد في: ضُرب زيد؛ دلالة على أنّ هذه الصيغة صيغة "ما لم يسم فاعله" التي تقتضي تغيير أوّل الفعل وتغيير المحلاّت الإعرابية للمتعلّقات بحذف المتمم الذي سيحلّ محل الفاعل.
5- الفارسي
   ركّز أبو علي الفارسي في المصطلح الذي استعمله وهو المصطلح رقم (14) في ترتيبنا للمصطلحات التي أطلقها النحاة على الظاهرة المدروسة أي "الفعل المبني للمفعول به"، ركز على الفعل، حاصرا الظاهرة في المفعول به. وذلك ما يوافق شأن المحور أو المتحمل بما أنّه يحصر الظاهرة في الفعل المتعدي وهو عنده "ما نصب مفعولا به" (المقتصد في شرح الإيضاح: 346-347) دون الفعل اللازم باعتباره "لا يتعدّى" (ن. م، ن. ص) إلى مفعول به إلاّ إذا تمت تعديته بالهمزة أو بالباء أو بالتضعيف (ن. م، ن. ص)، مع أنّ مفهوم التعدية كان أوسع عند سيبويه؛ إذْ يعتبر أنّ الفعل اللازم يتعدّى إلى المفاعيل الأخرى غير المفعول به بلا واسطة مثله مثل الفعل المتعدّي.
   فالظاهرة من جهة ظاهرة إعرابية بإعتبارها اختزالا لشأن دلالي هو شأن المنفذ. وهي من جهة أخرى ظاهرة صرفية إعرابية لما يطرأ على الفعل من زوائد أو صرافم تتصل به مباشرة، كالهمزة والتضعيف أو تتصل به بصورة غير مباشرة كالباء أو ما يسمى بحروف التعدية الموصلة لعمل الفعل إلى متمم تسمه إعرابيا. فالفارسي ركّز، إذن، من خلال المصطلح الذي استعمله على مفهوم العاملية أي العامل في الجملة وهو الفعل. فإن بُني للفاعل تطلّب فاعلا حقيقيا بغضّ النظر عن فاعل "مات" وما يشبهه من الأفعال، وإن بُني للمفعول به تطلّب فاعلا هو مفعول به في المعنى؛ لأنّ صيغة الفعل المبني للمفعول "تنتقي" الوحدة المعجمية التي تتوفر فيها سمات الفاعل والمفعول.
6- ابن جنّي
  بدأ المصطلح مع الزجاجي يرتقي إلى درجة من الوضوح والاختزال تمكن الدارس من الحديث عن "تكريس المصطلح" وذلك ما وجدناه عند ابن جنّي في (11)، (15). وقد تميز ابن جني في دراسة "ما لم يسم فاعله" بحديثه عن الإسناد وعن البناء. فالإسناد عنده هو لزوم الظاهرة حالة ما كإسناد الفعل للفاعل أو إسناد الخبر للمبتدأ، يقول: "وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل البتة". أي أنّ بعض الأفعال لازمت البناء للمفعول إلى حدّ أنّه يتعذّر بناؤها للفاعل والعكس بالعكس. وأما البناء، فهو ألصق بـ"مرفولوجية" الوحدة المعجمية؛ لأنّ اسم الحدث إذا أُريد به الفاعل يُبنى بناء معينا على وزن فَعَل أو فَعِل أو فَعُل[9] ... وإذا أريد به المفعول أي البناء للمفعول أو المجهول بُني بناء مخصوصا على وزن فُعِل. ولكن البِنائَيْنِ يتحكم فيهما التركيب. وذلك ما يحدد مركزية الإعراب في المفهوم الواسع للنحو، وبالتالي، فما يميّز الإسناد من البناء حسب ابن جنّي هو: أنّ الأخير ملازمة الشيء لحالة واحدة في التركيب كملازمة بعض الأفعال للبناء للمفعول. أمّا الإسناد فهو علاقة تربط بين عامل ومعمول من أجل تأدية معنى نحويا أو هو تغير لصيغة الفعل حسب المقام. ولكن ما يميز ابن جنّي عن النحاة قبله في دراسة هذه الظاهرة من زاوية إعرابية تركيبية هو أن البناء للمفعول هو غاية تمكن الفضلة. يتأكّد ذلك بالرجوع إلى "المحتسب" عند شرح ابن جنّي للآية "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" البقرة/31، حيث بيّن سُلّمِية أو تدرج المفعول به (المحتسب: 65_66) من كونه عنصرا فضلة إلى اعتباره "ربّ الجملة". ويمكن أن نوجز هذه السُّلّمِية في المراحل التالية:
1)الأصل في وضع المفعول أن يكون فضلة، نحو: ضرب زيد عمرا، 2) العناية بالمفعول: تقديمه على الفاعل، نحو: ضرب عمرا زيد، 3) ازدياد العناية به كتقديمه على الفعل "الناصبه"، نحو: عمرا ضرب زيد، 4) تظاهر ازدياد العناية به وبلوغه ربوبية الجملة وخروجه عن حيز الفضلة، نحو: عمرو ضربه زيد، 5) ازدياد تظاهر ازدياد العناية به كحذف الضمير العائد Anaphore عليه، نحو: عمرو ضرب زيد، 6) التمكن والحلول محل الفاعل: بناء الفعل له، وتعتبر الدرجة السادسة هي المرتبة القصوى في السُّلّمِية حسب ابن جنّي.
   وقد يحذف المفعول به مع أنّ الفعل يطلبه، فيصبح "نسيا منسيا" تماما كحذف الفاعل في عملية البناء للمفعول، فقد أشار ابن يعيش في باب حذف المفعول إلى أنّ المفعول به قد يحذف إلى درجة أن يشبه فعله بـ"جنس الأفعال غير المتعدية كما يُنسى الفاعل عند بناء الفعل للمفعول" (ابن يعيش، ج2: 39)، فالفاعل والمفعول به، إذن، "يتشابهان" في الثلاثية المذكورة والتي يوضحها الجدول التالي:

الفاعل
المفعول به
ينزل إلى المفعولية
يرتقي إلى الفاعلية
يُحذف لفظا ويُراد معنى
يُحذف لفظا ويُراد معنى
يُصبح بعد الحذف نسيا منسيا بعد نيابة المفعول عنه
يُحذف ويصبح نسيا منسيا

ولذلك يمكن إعادة النظر في مسألة انتماء الفاعل للنواة الإسنادية وجعل المفعول في درجة ثانية؛ لأنّه إذا كان لا يوجد فعل بلا فاعل؛ فإنّه لا يوجد فعل دون مفعول أو متأثر أو متحمّل. فزيد في: جاء زيد مفعول به في المعنى؛ لأنّ "زيدا" هو مفعول حدث المجيء بما أنّه هو الذي وقع الفعل به ولأنّ هذا الصنف من الجمل يدمج الفاعل والمفعول في حيّز واحد باعتبار أن القائم بالحدث والواقع به الحدث ذات واحدة. ولذلك يستغنى عن ذكر المفعول به لفظا بما أن الوحدة المعجمية المرفوعة التي تم بها المعنى تحمل معنى المفعولية. ومن ثمّ يتم الاستغناء هنا عن المفعول به في هذا الصنف الموسوم باللزومية، على غرار الاستغناء عنه في البناء للمفعول. وإذا ما أردنا صياغة الجملة صياغة جديدة من أجل توضيح الظاهرة الإعرابية الدلالية المذكورة وهي أنه لا فعل إلاّ بمفعول على غرار "لا يكون فعل ولا فاعل" حسب عبارة المبرد، يمكن أن نذكر: * جاء  زيدا؛ وهي جملة غير مقبولة نحويا على الرغم من أن المنطق النحوي يقبل جملا من صنف: مات زيدٌ، التي يمكن إعادة كتابتها نحويا؛ مات  زيدا؛ لو لم توسم المفعولية بالفضلة في النحو العربي. فقد قارن بعض النحاة بين: مات زيد، وضُرب زبد، باعتبار أنّ الفاعل في الجملتين مفعول به في المعنى وذلك ينطبق على: جاء زيد؛  بما أنّ زيدا فيها حامل لضمير المفعولية؛ إذْ أنّه قام بالفعل ووقع به كما أشرنا آنفا. ولكن هذه المفاعيل رُفعت ونابت الفاعل لمقتضيات نحوية تضع الفاعل في العمدة. من ذلك أن ابن السراج جعل المفعول الذي لم يسم فاعله رابع الأسماء المرفوعة (ابن السراج، الأصول، ج1: 76).
7- عبد القاهر الجرجاني
   يتضح من خلال المفهوم (16) الذي استعمله الجرجاني أنّ الظاهرة قد بدأت تتضح لا من جهة التفسير فقط وإنما من الناحية الاصطلاحية باعتبار أنّ ما كان يعبّر عنه سيبويه وبعض نحاة الرعيل الأول بجملة تفسّر الظاهر أصبح يعبر عنه بدلالة العملية: "نائب الفاعل" وإن كان قد استعمل مصطحا آخر أكثر تعقيدا من (16) وهو المصطلح رقم (17) الذي أراد من خلاله تحديد صنف المفعول الذي يبنى للمفعول في الأصل. على الرغم من تخلّيه عن قيد المفعول به في البناء للمفعول الذي استعمله الفارسي باعتبار أنّ أغلب المفاعيل يمكن أن ترتقي إلى درجة الفاعلية (ونقصد المفعول المطلق والمفعول فيه والمفعول لأجله و...)؛ نظرا  لمقتضيات الخطاب في سُلّمِية الشؤون الدلالية. فكلما حذف شأن دلالي ارتقى الشأن الذي يليه في السُّلّمِية.
   يعتبر الجرجاني أنّ المفعول المعنوي أو ما يسمى اليوم بالفاعل المنطقي لا فرق بينه وبين الفاعل الحقيقي في تسمية كل منهما بالفاعل، تماما، كما وجدنا عند سيبويه وقد يعود ذلك إلى حكم الجوار للفعل ولذلك قارن بين: مات زيد؛ وضُرب زيد؛ إذْ سأل عن سبب وسم زيد في: مات زيد، بوظيفة فاعل وعدم تحقق ذلك في: ضُرب زيد؛  مع العلم أن زيدا في المثالين مفعول في المعنى. ويمكن أن نضيف جملا أخرى إلى موازنة الجرجاني المذكورة، يعتبر الاسم المرفوع الواقع بعد الفعل فيها فاعلا لفظا مفعولا محلا. مثل: انكسر الكأسُ، أمطرت السماءُ، توقفت السيارةُ.
    فكل هذه الأمثلة يقع فيها تضمن المفعول في الفاعل بحجة أن الفعل والفاعل يكونان النواة الإسنادية لشدة تعلّق الفعل بالفاعل أو العامل بالمعمول إلى درجة يستحيل فيها وجود الفعل دون الفاعل. ولكن على الرغم من هذه الهيمنة، فالمفعول به حاضر؛ لأنّ الفعل يطلبه في البنية المجرّدة وإن غاب في الإنجاز باعتبار أنّ بعض المحلات الإعرابية الدلالية قد تستغني نحويا عن التهجية نتيجة بعض الاستعمالات اللغوية.

8- الزمخشري[11]
   ركز الزمخشري في التعبير عن الظاهرة المدروسة في المصطلحين (18)، (19) على الفعل كما نجد عند الفارسي، وعلى تراتبية أو سُلّمِية البناء للمفعول باعتبار أنّه لا يبنى الفعل لأحد المفاعيل الأخرى بوجود المفعول به باعتبار أنّه "متى ظُفر به في الكلام، فممتنع أن يسند إلى غيره" (المفصل في النحو1840: 116) بما أنّ الظاهرة المدروسة بناء للمفعول به في الأصل أو المفعول به المتعدى إليه بغير حرف" حسب الزمخشري، ولكن عند حذفه من الكلام في الجمل يمكن أن ينوبه أحد المفاعيل الأخرى التي يطلبها الفعل أصالة سواء أكان متعديا أم لازما[12]. وعلى هذا الأساس يظهر الاختلاف بين البناء للمفعول والظواهر التركيبية الأخرى التي تتصدرها أفعال من المطاوعة أو الانعكاس، بما أنّنا عندما نقول: كسر الولدُ الكأس أمس، وانكسر الكأسُ أمس، لا يمكن أن نقول:* اُنكُسر أمس؛ ولكن ذلك يصحّ في البناء للمفعول حيث يمكن أن نقول: جيء أمس؛ و جيء يوم الجمعة؛ ولذلك تحدث الأستاذ أحمد إبراهيم عن هذه الظواهر في نظريته التي وسمها بالحجب occulte والتي جمعت ظواهر عديدة منها البناء للمفعول، وصيغ المطاوعة وغيرها.
    أما إذا كان البناء للمفعول بناء للمفعول به فقط؛ فإنّه عندئذٍ لا يمكن أن نميّز بينه وبين صيغ المطاوعة وبعض التراكيب التي لا يصرّح فيها بالفاعل، لأنّ البناء للمفعول ستتعدّد أشكاله إلى: البناء للفعول في الأفعال الملازمة للبناء للمفعول، البناء للمفعول عن طريق تغيير أوّل الفعل (فُعِل)، البناء للمفعول مع عدم تغيير الفعل مثل: مات زيد، فرح زيد؛ بما أنّ زيدا مفعول به في المعنى. ومن هنا لا يختلف عن زيد في: ضُرب زيد، أعلاه. وهذا ما جعل الزمخشري يركز على عملية بناء الفعل كما أسلفنا. وبذلك يكون قد أثار بالمصطلح الذي استعمل، وهو المصطلح رقم (19) بالأساس، الجانب الصرفي التركيبي في الظاهرة المدروسة؛ فبناء الفعل للمفعول تتولد عنه عمليات عديدة منها: بناء الفعل على صيغة وُصفت بأنّها غير عادية، اختزال الفاعل أو حذفه أو تركه حسب تعبير النحاة، ارتقاء المفعول به، حذف المفعول به، اختزال الجملة. ولذلك اختلف النحاة من الناحية الاصطلاحية انطلاقا من التركيز على أحد عناصر الجملة. فمنهم من أعتبر المسألة بناء للفعل، ومنهم من أعتبرها بناء للمفعول. ومنهم من اعتبرها حذفا للفاعل، مع العلم أننا لا نفرّق بين البناء للمفعول وحذف الفاعل؛ لأنّ حذف الفاعل من مقتضيات البناء.
9- ابن يعيش
   لقد ركّز ابن يعيش في المصطلح (19)، (20) على مسألة الاستغناء عن الفاعل أو حذفه نظرا إلى مسائل مقامية ولم يذكر المصطلح (20) إلاّ من باب ذكر المصطلح الموجود في المؤلف المشروح، باعتبار أنّ كتب الشروح تحافظ أو تنقل لنا المفاهيم والمصطلحات الواردة في الأصل. ويدلنا على ذلك قول ابن يعيش "... المفعول الذي لم يسمّ فاعله ... يقال له فعل ما لم يسم فاعله"، فابن يعيش ذكر مصطلح "المفعول الذي لم يسم فاعله" وهي تسمية طويلة تذكرنا بابن السراج؛ تجعلنا نطرح من جديد مشكلة تطور المصطلح في النحو العربي. فنحن هنا في القرن السابع للهجرة مع ابن يعيش، والظاهرة المدروسة رغم وضوحها عند النحاة لم تختزل في مصطلح مفرد، أو مركب يتسم بسمة الإفراد؛ في حين نجد عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري يعبر عن الظاهرة بعبارة أقصر "البناء للمفعول". وبالتالي يبدو أنّ النحاة رغم اطلاعهم على دراسات بعضهم البعض ينتقون مصطلحات تعود إلى القرون الأولى تاركين التهذيب الذي يطرأ على المصطلحات من حين لآخر. ويبدو أنّ لكتب الشروح شأنا كبيرا في هذه المسألة باعتبار أنّ الشارح قد لا يُحَوِّرُ تسمية المصطلح. ولذلك كثيرا ما نلجأ إلى تحليل المصطلح عند النحوي كي نقف على خلفياته النظرية في وضع التسمية.
10- ابن الحاجب
   نلاحظ أنّ المصطلح (19) الذي ظهر عند الزجاجي وابن جنّي أكثر تهذيبا منه عند الزمخشري وابن يعيش وابن الحاجب والاستراباذي رضي الدين والاستراباذي ركن الدين المتأخرين عنهما أي الفترة الممتدة بين القرنين الرابع والسابع للهجرة؛ قد تمّ التركيز فيه على حجب الفاعل بإعتبار أنّ ظاهرة البناء للمفعول تعتور الفاعل لما ينتاب الفعل من تحوير في أوله وقبل آخره إذا كان ثلاثيا صحيحا. علما بأنّ تحديد صيغة الفعل ليست من مشمولات بحثنا وإنما تطور المصطلح من خلال تاريخية تداوله بين النحاة العرب. ويبدو أنّ هذا المصطلح هو الأكثر تداولا، على الأقل، بين النحاة الذين اعتمدناهم في هذه الدراسة على الرغم من أنه أي المصطلح يتراوح بين "فعل ما لم يسم فاعله" و"ما لم يسم فاعله"، تكرر (11) مرة في الجدول أعلاه، يليه مصلح البناء للمفعول ذكر (6) مرات بصيغ مختلفة، ويليي ذلك مصطلح نائب الفاعل الذي ذكر 4 مرات في الجدول بصيغتين مختلفتين.
   ولا نقصد من خلال هذه الدراسة أن هذه العملية الإحصائية قارة باعتبار أننا لم نقم بجرد للمصطلع عند جميع النحاة وإنما فقط بالنسبة إلى من اعتمدنا عليهم خاصة أنّ معظم النحاة لم يفرد للمبني للمفعول بابا خاصا به، وإذا أفرده يأتي موجزا.
   ركّز ابن الحاجب على ظاهرة الاختزال التي تمثلت عنده في حذف الفاعل مع أنّ بعض النحاة يعتبر أنّ المفعول هو العنصر المحذوف بما أنّه حلّ محلّ الفاعل عند حذفه أو زواله.

11- الإستراباذي رضي الدين:
  استعمل الإستراباذي (3) مصطلحات (19)، (21)، (22) فالأول والثاني وجدناهما عند الزجاجي وابن جنّي والزمخشري وابن يعيش وابن الحاجب والإستراباذي ركن الدين. ولكن الاستراباذي قد ذكر مصطلح آخر هو (22) "المبني للمفعول" الذي اشترك فيه مع الفارسي وابن جني والجرجاني والزمخشري. فالمصطلح (21) يذكرنا بمصطلح (1/1َ) من مصطلحات سيبويه وهو "المفعول الذي لم يتعدّه فعله ولم يتعدّ إليه فعل فاعل" أو "المفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولم يتعدّه فعله إلى مفعول آخر" إلاّ أنّ سيبويه استعمل مفهوم التعدية والاستراباذي استعمل مفهوم إخفاء الفاعل. وما ثبت في المصطلحين هو "المفعول" بإعتبار أنّ الظاهرة تعتري المفعول الذي يرتقي إلى موضع الفاعلية حاملا معه قرائن دلالية تبقيه متضمنا لبعض سمات المفعولية. إلا أنّ الإستراباذي ذكر مصطلحا آخر وهو مصطلح (22) "المبني للمفعول" الذي استعمله عبد القاهر الجرجاني قبله تحت تسمية "البناء للمفعول" على الرغم من أنّ نحاة قبل الرضي مثل ابن الحاجب وابن يعيش والزمخشري وبعد الجرجاني استعملوا مفاهيم أخرى مثل "الفعل المبني للمفعول"، "فعل ما لم يسم فاعله" المفعول الذي لم يسم فاعله".  
12- الإستراباذي ركن الدين:
    نلاحظ أنّ ركن الدين قد ركّز في (20)، (23) على المفعول باعتباره الوظيفة التي تتم فيها عمليتي الإختزال[13] والتحوير؛ إذْ يكون مفعول ما لم يسم فاعله متحمّلا. أما الفاعل، فيكون منفّذا أو أداة في البناء للفاعل. يتفق ركن الدين في (20) مع ابن السراج وابن يعيش مع تغيّر طفيف لا يكاد يذكر؛ لأنّه لا يغير المعنى المقصود من المصطلح على الرغم من انّ الحيّز الزمني الذي اتخذه هذا المصطلح يزيد على 3 قرون. فابن السراج ينتمي إلى القرن الرابع وركن الدين من أصحاب القرن السابع. وقد اتفق الإستراباذي ركن الدين وابن السراج في اعتبار أنّ مفعول ما لم يسم فاعله من المرفوعات كما أشرنا آنفا، إلاّ أنّ الإستراباذي لم يحدد مرتبته كما فعل ابن السراج.
13- ابن هشام:
   نلاحظ في المصطلح (24) ظهور مفهوم النيابة وإن كان ظهوره عرضيا عند بعض النحاة كالزجاجي في قوله: "وانّ المفعول قد ناب منابه" دون أن يعتبر مفهوم النيابة مصطلحا يعبّر به عن الظاهرة المدروسة. وقد سمى ابن هشام الظاهرة المدروسة من جهة أخرى بمصطلح "النائب عن الفاعل" وهو يقصد هنا المفعول المرفوع؛ فبعد أن كان المصطلح موسوما بحجب الفاعل أو تركه أو حذفه وبانعدام شأن المفنذية فيه. أصبح الوسم بالحيّز؛ لأنّ النائب ارتقى من حيّز النصب (المفعولية) إلى حيّز الرفع (الفاعلية) وهما وظيفتان أو معنيان مختلفان؛ لكنهما يشتركا في بعض الدلالات النحوية اشتراكا شبه تبادلي، فالمفعول به يرتقي إلى درجة الفاعلية والفاعل ينزل إلى حيّز المفعولية في البناء الجعلي. فارتقاء الأول يختزل الجملة، ونزول الثاني يكثفها باعتبار أنّه يضيف شأنا دلاليا جديدا. وكلّ ذلك يتحكّم فيه العامل الأساس الذي هو المتكلّم. وبالطبع لمقام القول شأن أساس في إجراء الكلام.
   نلاحظ أن ابن هشام يحصر الظاهرة المدروسة في المفعول به الذي ينوب الفاعل في أحكامه (كالرفع أو تمام الكلام)؛ إذ "ينوب عنه في أحكامه كلها ...". وهذا ما يخالف رأي بعض النحاة الذين أسموا الظاهرة بالبناء للمفعول دون ان يحدّدوا صنف المفعول الذي ينوب الفاعل؛ وإن كانوا قد حدّدوا سُلّمِية هذه النيابة. ومن الواضح في هذا المصطلح أنّ النحاة منذ ابن هشام حسب المدونة تخلّوا عن عملية بناء الفعل وعملية عدم تسمية الفاعل. وأصبح التركيز على البنية المنجزة. فزيد في: ضُرِب زيد؛ يعتبر نائب فاعل لا، لأنّ الجملة مشتقة من جملة أخرى بل، لأنّ "زيدا" في المعنى هو الذي وقع الفعل به إلا أنه ملأ حيّز الفاعلية المعهود للفاعل المنفّذ او الفاعل الطرازي. ولكن ابن هشام قد اعتبر أنّ البنية تحويلة وذلك ما نستشفه من المصطلح الذي استعمله وإن كان قد بلغ الصيغة التي استقرّ فيها إلى اليوم.
14- السيوطي
   حافظ السيوطي على مفهوم النيابة بتبسيط المفهوم من الناحية التركيبية؛ إذْ جاء المصطلح (25) في مركب إضافي. والمركب الإضافي حكمه حكم المفرد لتعلّق جزئيه. وهذا هو أبسط مصطلح استعمل للتعبير عن الظاهرة. وربما يعود ذلك إلى كثرة استعماله. وقد حاول السيوطي استخراج السمات الدلالية التي تتولّد عنها هذه النيابة[14] .
   ويبدو أنّ كلّ المعاني التي استخرجها السيوطي خاضعة لقصد المتكلّم الذي هو العامل الأساس كما اشرنا آنفا. ولكن النحاة أهملوه حسب الرّضي الإستراباذي، إذ المتكلّم هو الذي يقوم بتوزيع المعاني النحوية في الكلام حسب اختيارات يقتضيها المقام، فيحذف شأنا أو يضيفه، أو يرقي المنصوب إلى حيّز المرفوع بمراعات الأصول النحوية أو ما يسمى بالمبادئ والمقاييس في اللسانيات الحديثة.
15- الشنقيطي العلوي
حافظ الشنقيطي على المصطلح الذي استعمله السيوطي بما أنّه "شرح همع الهوامع"، ولكنه في شرحه لم ينح نحو الشروح بل ذهب إلى تصنيف الظاهرة انطلاقا من الأمثلة الواردة في الكتاب المشروح؛ إذْ يضع المثال ويعلّق عليه، ويبيّن هوية العنصر النائب، هل هو المفعول به أو غيره من المفاعيل، أم هل أنّ النيابة حصلت مع ظهور المفعول به أم لا.؟
   هذا التعدد المصطلحي الدال على عدم ثبوت مصطلح قار لهذه الظاهرة يعود إلى اختلاف زوايا النظر في جملة البناء للمفعول؛ إذْ أن التغيير يصيب كلّ البنية إذا ما اعتبرنا أنّ البناء للمفعول تحويل للبناء للفاعل؛ كما يفهم من سعي بعض النحاة؛ أو أنّه لا يوجد أيّ تغيير باعتبار أن الظاهرة أصلية لها خصائصها في التعدية واللزوم. ويمكن إرجاع هذين التوجهين إلى موقف النحاة من الفاعل في الجملة المبنية للمفعول؛ فالاتجاه الأول يفهم من أصحابه أنّ البناء للفاعل أصل، لظهور الفاعل الحقيقي. وأنّ البناء للمفعول فرع بما أنّ المفعول به يحلّ محلّ الفاعل المحذوف. وآية ذلك حديثهم عن حذف الفاعل بدرجات متفاوتة، تختلف من نحوي إلى آخر؛ إذْ يذهب المبرَِّد وابن الحاجب وابن هشام إلى أنّ البناء للمفعول يتمّ بحذف الفاعل وما يترتّب عن ذلك من تغيير في البنية الأصلية التي هي البناء للفاعل. وقد جاراهم في ذلك الزمخشري وابن يعيش من جهة تفسيرهما للظاهرة بالاستغناء عن الفاعل. وذهب الزجاجي والشنقيطي في ذات الاتجاه في مفهوم نائب الفاعل. واستعمل الجرجاني مفهوم "اختزال الفاعل" والسيوطي مفهوم "الترك"، فكلّ هذه التفسيرات أو المواقف التي فسّر من خلالها هؤلاء النحاة ما يطرأ على الفاعل في الجملة المبنية للمفعول تجعل من الظاهرة المدروسة بنية محوّلة.
   وأمّا الاتجاه الثاني، والذي هو الأوّل، من الناحية التاريخية فقد ذهب أصحابه إلى أنّ البناء للمفعول بنية مستقلّة. وقد ذهبوا، زيادة على ذلك، إلى المساواة بين الفاعل والمفعول المرفوع معنى، أو إلى جعل المفعول المرفوع معنى رابع المرفوعات؛ فذهب سيبويه إلى أنّ رفع المفعول به يعود إلى "إفراغك الفعل له" أي أن الفعل أسند للمفعول عن قصد. وذهب ابن السّرّاج والإستراباذي ركن الدين إلى أنّ المفعول الذي لم يسم فاعله هو رابع الأسماء المرفوعة. وذهب ابن يعيش إلى أنّه يجري مجرى الفاعل ... ولذلك، فأصحاب هذا الاتجاه يعتبرون أنّ البناء للمفعول بنية أصلية يختارها المتكلّم للتعبير عن مقاصده حسب مقامات معينة، وله خصوصياته ومميّزاته التي قد يشبه فيها البناء للفاعل كاللزوم والتعدية مثلا، كما يبين سيبويه في الجدول أعلاه.
III- المسار الاصطلاحي لمفهوم البناء للمفعول في النظرية النحوية
   إذا ما نظرنا نظرة شاملة للمسار الاصطلاحي للبناء للمفعول، نجد أنّه يدور حول محورين أساسين، تحددّهما الثنائية عامل Operateur/معمول Argument. فبعض النحاة وقع تركيزه على العامل الذي هو الفعل وبعضهم وقع  تركيزه على المعمول أي الفاعل المحذوف والمفعول الذي حلّ محلّه. في حين أنّ بعض النحاة قد جمع الثنائية عامل/معمول. فالنحاة الذين ركّزوا على العامل ندرجهم تحت المصطلح "فعل المفعول الذي لم يسم فاعله" و"بناء الفعل للمفعول"، و"فعل بُني للمفعول به"، و"فعل ما لم يسم فاعله" ...، وأصحاب التوجه الثاني نجعلهم تحت مصطلح "المفعول الذي لم يتعدّه فعله ولم يتعدّه فعله إلى مفعول"، و"المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعول"، و"مفعول ما لم يسم فاعله"، و"المفعول الذي لم يسم فاعله". وأصحاب التوجه الثالث تحت مفهوم "ما لم يسم فاعله" (أنظر الثبت الإصطلاحي في الجدول أعلاه).
  نلاحظ أنّ كلّ المفاهيم المذكورة تشترك في عملية أساسية هي عملية إخفاء الفاعل أو حجبه. وقد بيّنا سابقا تباين مواقف النحاة من الفاعل، واعتبرنا مواقفهم منه رائزا لأصلية البناء للمفعول أو فرعيته. ونشير إلى أنّ المصطلحات أعلاه تخضع لعمليتين أساستين وهما:
-         تصريف صيغة الفعل تصريفا خاصا،
-         تقليص متعلّقات الفعل بظهور نوع خاص من المرفوعات أو من المنصوبات المرفوعة.
فالعملية الأولى صرفية تركيبية، والثانية إعرابية دلالية. تتمثل الأولى في اشتقاق الفعل من الحدث أو اسم الحدث لمقتضيات يتطلّبها التركيب أو مقاصد المتكلّم دون أن تكون فُعِل تقليب لفَعَل. ولذلك فالجملة: قُتِل زيد؛ قد لا تقتضي بنية سابقة عليها بما أنّ زيدا مرفوع على الفاعلية بما أنّ الفعل أسند له؛ لأنها لا تختلف دلاليا عن مات زيد. وأمّا العملية الثانية فإنها تقوم على اختزال متعلّقي الفعل في حيّز إعرابي واحد. ولذلك نجد النحاة يتحدثون عن "المفعول المرفوع". وإذا ما حاولنا تفسير ذلك نرجع حذف الفاعل إلى إسناد الفعل للمفعول، كما أشرنا آنفا. والمقصود بحذف الفاعل عند النحاة هو إلغاء تهجيته Spell out باعتبار أنّ محلّ الفاعل محفوظ. ولذلك، فليس هناك حذف ولا حجب؛ بما أنّ الرأس الفعلي "ينتقي" وحدة معجمية تكون لها سمات تتفق مع سماته.
   تثير المفاهيم المذكورة عدة مشاكل منها: ما نجده في بعض الأفعال التي تستعمل دون فاعلها الحقيقي مثل: مات، فرح، بكى، حزن، وغيرها من الأفعال التي تطلب من الناحية التركيبية متعلقين مع أنّها في البنية الإنجازية تقتصر على متعلّق واحد يكون فاعلا لفظا مفعولا معنى أو محلا؛ لأنّه هو الذي وقع الفعل به. فالجملة: فرِح زيد، على سبيل المثال، فاعلها الحقيقي ليس "زيدا" باعتبار أنّ زيدا في المعنى هو موضوع الفرح؛ لأنّ مؤشر الفرح باد عليه نظرا للملحوظة العينية. وكأنّ الفرح شيء يُخلع على زيد نتيجة مؤثر خارجي كالنجاح في الامتحان مثلا. وذلك الشيء الخفي هو فاعل الفرح الذي تستجيب له نفسية زيد. وربّما يعود التخلّي عن الفاعل الحقيقي إلى كثرة الاستعمال أو إلى اعتماد ظاهر السبب لاختفاء المسبب. ولذلك غاب على المتكلم فاعل الفرح أو مصدره أو تناساه. فرفع زيد على أنّه فاعل، تماما كرفع زيد في: مات زيدٌ؛ ولذلك فمصطلح "ما لم يسم فاعله" يمكن أن يجري على هذه الجمل المذكورة. ومن ثمّ فإنّ كثرة المصطلحات التي استعملت من قبل النحاة قد تعود إلى مشكل البحث عن مصطلح جامع مانع للظاهرة باعتبار أنّ الجرجاني قد سأل لماذا لم يسم زيد في: ضُرب زيد، فاعلا على غرار زيد في: مات زيد؟. إلاّ اننا نعيد السؤال من زاوية أخرى تتمثل في : لماذا لا يكون زيد في: مات زيد؟، و: فرِح زيد، نائب فاعل؟ بإعتبار أنّ زيدا في المثالين ليس هو الفاعل الحقيقي، هذا إذا ما اعتبرنا أنّ البناء للمفعول لا يقتضي صياغة الفعل صياغة خاصة، كصيغة فُعِل مثلا؛ لانّ زيد في: مات زيد، يمكن أن يُعتبر "نائب فاعل". وفي هذا النطاق حاول Payne في كتابه « Describing Morphosyntax » (Payne: 2004-206) أن يبيّن انطلاقا من عدة لغات أصناف من البناء للمفعول Passive وهي:

-         البناء للمفعول المعجمي            Lexical passive
-         البناء للمفعول الصرفي     Morphological passive
-         البناء للمفعول التحليلي            Analytic passive    
-         البناء الشخصي                   Personal passive
-          البناء للمبهم                    Impersonal passive
فهل يعتبر تصنيف Payne للبناء للمفعول حلا لمعضلة المصطلح في النحو العربي؟ خاصة أنّ الدراسة النحوية في الظاهرة المدروسة قد تحدّثت عن ما يشبه ما ذكره Payne. إلاّ أنّها لم تصنف هذا التصنيف إذا ما استثنينا الفاسي الفهري.

IV- الخاتمة
   إنّ قضية المصطلح في ظاهرة البناء للمفعول قضية شائكة تكتنف مشاكل عدّة تركها النحاة غامضة. من ذلك:
-         الاختلاف في التسمية؛ إذ وصلت المصطلحات المستعملة من قبل النحاة إلى 25 مصطلحا حسب الكتب التي اعتمدنا، مع أنّ الاختلاف في التسمية يرجع إلى عنصر الفاعل للاختلاف الضمني حول أصلية جملة البناء للمفعول أو فرعيتها. نرجح أصليتها باعتبار مقاصد المتكلّم في الخطاب من جهة، وباعتبار أسباب حذف الفاعل التي حددها السيوطي. ثم أنّ الدراسات اللسانية الحديثة وصلت مع الأستاذ الهيشري إلى خمسمائة وأربعة وثمانين (584) فعلا، وهي نسبة لا بأس بها من الأفعال الملازمة للبناء للمفعول مما يوحي الدارس بتبني أصلية البناء للمفعول.
-         نائب الفاعل مفعول مرفوع أم فاعل يشتمل على سمات المفعولية؟. فإذا ما اعتبرناه فاعلا سنصنّفه في صنف آخر من أنواع الفاعلين يختلف عن الفاعل التقليدي، لأنه "مفعول فاعل"؛ إذْ يجمع بين سمات الفاعلية والمفعولية كما بيناه، فهو فاعل أو يشبه الفاعل في كلّ أحكامه النحوية عند سيبويه وعبد القاهر الجرجاني وغيرهما. وهو مرفوع رابع عند ابن السراج والإستراباذي ركن الدين.
-         مصطلح ما لم يسم فاعله قد يضم ما يسمى بصيغ المطاوعة والانعكاس، وبعض الأفعال التي يأتي فاعلها مفعول به في المعنى باعتبار أنّ فاعلها الحقيقي محذوف. بما أنّ النحاة تحدّثوا عن حذف الفاعل. ولذلك، فالظاهرة المدروسة تطلب مصطلحا أوضح يحدّد الظاهرة تحديدا يميّزها عن كلّ ظواهر حجب الفاعل.







المصادر والمراجع
I- المصادر
ابن جني، 1994، المحتسب في تبيين وجوه شواذ القرآن والإيضاح عنها، ج2، تحقيق على النجدي، عبد الحليم النجار، عبد الفتاح إسماعيل شلبي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة.
ابن السراج، 1997، الأصول في النحو، ج1، تحقيق عبد الحسين الفتيلي، مؤسسة الرسالة، ط2، بيروت.
ابن هشام جمال الدين الأنصاري، 1980، الجامع الكبير في النحو، تحقيق وتعليق أحمد محمد الهرمي، في سلسلة التراث اللغوي عدد3، مكتبة الخانجي، القاهرة.
ابن يعيش، (د، ت)، شرح المفصل، ج2، تحقيق عالم الفكر، بيروت.
الإستراباذي، 1996، شرح الرضي على الكافية، تصحيح وتعليق: يوسف حسن عمر، منشورات جامعة قاريونس، ليبيا.
الإستراباذي الحسن بن محمد العلوي، 1983، الوافية في شرح الكافية، تحقيق دار الرشيد للنشر، العراق.
الزمخشري، أبو ابقاسم محمود بن عمر، 1840، المفصل في النحو، دار J.P Broch
السيوطي، 1997، همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، ج1، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت.
سيبويه، 1990، الكتاب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط خاصة، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.
الشنقيطي أحمد بن محمد الأمين، 2001،  الدرر اللوامع على همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، ج1، شرح وتحقيق عبد العالم سالم مكرم، عالم الكتاب، القاهرة.
II-المراجع
1- المراجع بالعربية
عاشور المنصف، 1999، ظاهرة الاسم في التركيب النحوي،: بحث في مقولة الاسمية بين التمام والنقصان، منشورات كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، تونس.
الفاسي الفهري عبد القادر، 1986، المعجم العربي نماذج تحليلية جديدة، في سلسلة المعرفة الثانية، دار توبغال للنشر، الدار البيضاء، المغرب.
                     البناء الموازي، نظرية في بناء الكلمة وبناء الجملة، دار توبغال للنشر، الدار البيضاء، المغرب.
قريرة توفيق، 2003، المصطلح النحوي وتفكير النحاة وبناء الجملة، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، دار محمد علي، تونس.
المهيري عبد القادر، 1989، إشكالية التاريخ لنشأة المصطلح النحوي، في مجلة المعجمية العدد (5، 689-90، بيت الحكمة، تونس.
الهيشري الشاذلي والمنصف عاشور، 2005، قضايا في الأبنية الإعرابية والدلالية، منشورات كلية الآداب والفنون والانسانيات منوبةـ تونس.
الواعر مازن، 1988، قضايا أساسية في علم اللسانيات، الأطلس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق.
2- المراجع باللغة الأجنبية
Chomsky 1987, La nouvelle syntaxe Tr Lelia Picabia présentation, d’Alain Rouvret, Ed. Seuil.
Payne 1997, Describing morphosyntax, A gide for field linguistics, Cambridge.






[1] - كتب الشروح تذكر المصطلح المستعمل في الكتاب المشروح والمصطلح المستعمل من قبل الشارح.
[2] - لم نرجع إلى "الإيضاح العضدي" باعتبار أنّ السياق الذي ورد فيه المصطلح المدروس موجود في شرح الجرجاني.
[3] - أخذت هذا الكلام من كتاب (المقتصد في شرح الإيضاح" للجرجاني (عبد القاهرالمجلد الأول: 334)، بما أنه شرح لكتاب الفارسي المذكور أو لكتابيه كما جاء في تقديم المحقق لكتاب "المقتصد في شرح الإيضاح" المذكور يقول المحقق في الصفحة 13 من التقديم "وجدت في كتاب عبد القاهر "المقتصد" الذي شرح فيه كتابي أبي ... "الإيضاح في النحو" و"التكملة في الصرف" خير معين لي".
[4] - لم أرجع إلى كتاب الكافية وإنّما استقيت المصطلح من شرح الرضي على الكافية.
[5] - نلاحظ تضاربا في نسبة تسمية المصطلح لابن الحاجب من قبل الشارحين وهما الاستراباذي رضي الدين والاستراباذي ركن الدين، فالأول نسب إلى ابن الحاجب مصطلح فعل ما لم يسم فاعله، والثاني نسب إليه مفعول ما لم يسم فاعله وهما تسميتان مختلفتان كما سيأتي؛ إذ لا نعرف إن كان ابن الحاجب استعمل المصطلحين أم لا؟.
[6] - أنظر شرح الرضي على الكافية، ج1: 57، 63
[7] - هذا المفهوم أي "الشأن" اقترحته اللجنة العلمية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نواكشوط؛ فالترجمة التي استعملها لمفهوم rôle هي الدور.
[8] - الصرافم جمع صرفم، وهو الوحدة الصرفية، ترجمة لكلمة morphèmes بالفرنسية أي الوحدة الصرفية، وقد اختار لها الأستاذ عبد القادر لمهيري هذه الترجمة من باب التسهيل وترجمة المفهوم ترجمة بسيطة، وقد اتبعه جل أساتذتنا.
[9] - اكتفينا بوزن الفعل الثلاثي
[10] - مفعول الجعل الذي هو في الأصل فاعل.
[11] - تميّز الزمخشري بعملية تعريف المصطلح نتيجة للتراكم المعرفي للظاهرة المدروسة وذلك ما انعكس على قصر تسمية المصطلح عنده.
[12] - ما يسمى بالفعل اللازم قد يطلب أكثر من متعلّق ولذلك بُني للمفعول باعتبار أنّ المفاعيل الأخرى كالمفعول المطلق والمفعول فيه للزمان والمكان والمفعول لأجله يحلون محل الفاعل مع انعدام المفعول به وذلك ما يوافق البناء للمبهم Impersonnel passif في اللغات الهندية الأوروبة.
[13] - أشار الأستاذ (عاشور 1999: 362) إلى أنّ مصطلح المفعول الذي لم يسم فاعله يدلّ على مفهوم التعويض والخزل
[14] - نشير إلى أنّ هذه المعاني أو السمات الدلالية قد حاول استخراجها أكثر من نحوي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


الحقوق محفوظة لمدونة الحروف ©2013-2014 | اتصل بنا | الخصوصية